غالباً ما تكون البساطة هي السمة المميّزة للحلول المبتكرة الجيدة الهادفة إلى تحسين حياة الناس وتمكينهم في المجتمعات المهمّشة، ناهيك عن أنها تتطلب مستوىً عالياً من الالتزام والثقة وروح التعاون لتجاوز التحديات، والتأقلم مع الصعوبات، وتبني المبادرات بشكل يؤدي إلى نجاحها. ينطبق هذا على مشروع بلديّة راوركيلا في شمال الهند، لمساعدة صغار بائعات المنتجات الزراعية على الحفاظ على منجاتهنّ من التلف وتجنيبهنّ الخسائر التي تنعكس سلباً عليهنّ وعلى أسرهنّ.
تعاني غالبية بائعي الخضروات والفواكه في مدينة راوركيلا وغيرها من مناطق الهند، ومعظمهم من النساء، من قصر فترة صلاحية منتجاتهم خاصة في فصل الصيف الشديد الحرارة، ما يؤدي إلى هدر جزء مهم من المنتجات، أو اضطرارهم أحياناً لبيعها بأسعار تكلفتها قبل أن تفسد. وتفتقر البائعات إلى أجهزة تبريد لإطالة صلاحية منتجاتهن نظراً لعدم قدرتهن على شرائها. كما يعاني موردو تلك المنتجات، وغالبيتهم من صغار المزارعين من المشكلة ذاتها.
تداركاً للتداعيات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لهذه الحالة على تلك الفئة من السكان، بادرت بلدية راوركيلا قبيل تفشي جائحة كوفيد-19، وبالتعاون مع “مدينة راوركيلا الذكية”، إلى إطلاق مشروع لتوفير مرافق تخزين بارد تعمل بالطاقة الشمسية النظيفة والمستدامة، ووضعها في خدمة البائعات. حظي المشروع بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، فدخل أول مرفق للتبريد المرحلة التشغيلية بنجاح في منتصف صيف 2023 بعد أن شُيّد في إحدى الأسواق الكبيرة لتجارة الخضروات والفاكهة في المدينة. وكان من المقرر أن يكتمل بناء مرافق تبريد في أربعة مواقع أخرى في المدينة.
لكن المشروع لم يخلُ من التحديات، خاصة في بداياته. وتمثلت أكبر عقبة حينها في إقناع البائعات والمزارعات باستخدام مرافق التبريد، فقد كانت لديهنّ مخاوف من الرسوم– وإن كانت زهيدة– التي حُددت لقاء استخدام المرافق، هذا فضلاً عن شكوكهنّ إزاء سهولة استرداد المنتجات من المرافق في اليوم التالي من تخزينها. يعود الفضل الكبير في تجاوز تلك العقبة إلى جهود مجموعات المساعدة الذاتية النسائية في المدينة، التي تضم نساءً تطوّعن لمساعدة مواطناتهنّ في المجتمع المحلي في تقديم المشورة وإيجاد الحلول لمختلف المشاكل التي يعانين منها. قامت تلك المجموعات بتبديد مخاوف البائعات والمزارعات حول مرافق التبريد، وإيضاح الفوائد من استخدامها، خاصة من جهة تجنيبهنّ خسائر خفض أسعار المنتجات أو إتلافها، وبالتالي زيادة أرباحهن، ما يوفر لهنّ ولأسرهنّ مردوداً ومعيشة أفضل.
في مرحلة مبكرة من المشروع، واجهت البائعات والمزارعات تحدياً أكبر تمثل في تفشي جائحة كوفيد-19 الذي أدى إلى فرض قيود على التجول، ما أدى إلى انخفاض المبيعات في السوق الذي خلا من العديد من الزبائن، وبالتالي شكل تهديداً مباشراً على معيشة أسر البائعات. لجأت السلطات حينها إلى التكنولوجيا الرقمية لإيجاد حل مبتكر وفرت من خلاله للبائعات إمكانية استخدام أجهزة الكمبيوتر مع تطبيقات لإدارة مخزون غرف التبريد، وتبسيط العمليات، والأهم أن الأجهزة أتاحت الفرصة لتعويض البائعات عن غياب الزبائن الشخصي من خلال البيع عبر الإنترنت، ورفع مستوى مبيعاتهنّ. وهنا أيضاً كانت مساهمة مجموعات المساعدة الذاتية كبيرة في إنجاح المشروع من خلال تمكين البائعات من التأقلم مع التكنولوجيا وتبني أساليب التجارة الحديثة.
ما يميز هذا المشروع عن العديد من غيره من المبادرات في الهند هو الالتزام القوي والمشاركة الفعالة من قبل المجتمع المحلي والمنظمات، خاصة مجموعات المساعدة الذاتية النسائية، في اقناع وتوعية وتثقيف البائعات والمزارعات بفوائد المشروع.
تتألف مرافق التبريد من عدد من العناصر تضم مستودعاً مقسم إلى غرف للتخزين البارد لحفظ الخضروات والفواكه يستخدمه كل من المزارعين والبائعين، ونظام تبريد يعمل بالطاقة الشمسية النظيفة، ومركز بيع مشترك لتيسير تجارة الخضروات والسلع الأخرى. وكل مرفق تبريد مجهز أيضاً بعربتي “ريكشا” التقليدية، لكنها تعمل بالطاقة الكهربائية، لتسهيل عملية نقل السلع إلى عملاء المرفق من المؤسسات التي تشتري المنتجات بالجملة.
بلغ عدد المستفيدات من المشروع من صغار البائعات والمزارعات في راوركيلا لغاية اليوم ما بين 700 و800. وحظي المشروع بتقدير مؤسسة “بلومبرغ لريادة العطاء” العالمية، التي منحته أوائل العام 2023 جائزةً تهدف تقديرية بوصفه ابتكاراً أثمر عن رفع مستوى دخل المرأة وصغار التجار والمزارعين من خلال تطبيقات التكنولوجيا.
تميز مشروع مرافق التبريد بنطاقه الواسع وبعد أثره. فقد ساهم في المقام الأول بتمكين المرأة اقتصادياً، وأتاح للبائعات والمزارعات فرصاً جديدة لتوسيع أنشطتهم في عالم الأعمال ودخول أسواق جديدة، خاصة من خلال البيع عبر الإنترنت، والتوصيل الميسر إلى المنازل والمؤسسات. كما أدى إلى الحد من هدر الخضار والفاكهة كنفايات، وتوفير الإمدادات الغذائية بشكل مستقر وثابت، ورفع مستوى الأمن الغذائي في المدينة. بالإضافة إلى ذلك، وفر المشروع فرص عمل لأعضاء المنظمات النسائية المحليين في إدارة مرافق التبريد والإشراف عليها.
من جهة أخرى، انسجمت مخرجات المشروع مع العديد من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2030، سواءٌ أكان على صعيد الهدف الأول، وهو القضاء على الفقر من خلال تمكين الفئات المهمشة وتحديداً النساء، أو على صعيد الهدف الثاني المتمثل في القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي. ومن جهة أخرى، ينسجم المشروع مع هدف التنمية المستدامة الخامس، وهو الحد من أوجه عدم المساواة بين الرجل والمرأة وتمكين النساء والفتيات من المساهمة بشكل أقوى في الاقتصاد المحلي.
ولعلّ أهم العبر والدروس التي يمكن استخلاصها من نجاح تجربة راوركيلا تتمثل في أهمية التعاون بين المؤسسات ومنظمات المجتمع المحلي، والمرونة في الأزمات (مثل اللجوء إلى التكنولوجيا خلال تفشي الجائحة) والاستدامة الاقتصادية (من خلال الرسوم الزهيدة على استخدام مرافق التبريد)، والمصادقة الدولية (من خلال تكريم جائزة بلومبرغ).
المراجع:
- https://www.newindianexpress.com/states/odisha/2021/oct/01/rourkelas-cold-storage-project-boosts-women-vegetable-vendors-2366113.html
- https://sundayguardianlive.com/news/rourkela-uses-tech-stop-waste-produce-boost-farmers-income
- https://sdglocalaction.org/30-cold-room-sites-in-rourkela-start-operations/
- https://bloombergcities.jhu.edu/mayors-challenge/2022/rourkela-india











