بعد أن ترسّخ الذكاء الاصطناعيّ عنصراً أساسياً في حياة البشر، عليه أن يتمثَّل مبادئهم. من هذه الفكرة، انطلق مشروع الذكاء الاصطناعيّ الدستوريّ التشاركيّ في أمريكا، ليوائمَ سلوك الذكاء الاصطناعيّ مع القيم المجتمعية.
قبل زمنٍ غير بعيد، لم يكن مصطلح “ذكاء اصطناعيّ” مألوفاً لمعظم الناس، لكنّه استطاع بسرعةٍ فائقةٍ أن يصبح حجر زاويةٍ في الحياة المعاصرة، وأن يؤثّر على الصناعات المختلفة والحوكمة واتخاذ القرارات وشكل الحياة كلِّه.
ضمن هذه المعطيات، لا بدّ من تطويره بحيث يكون أخلاقياً ومسؤولاً اجتماعياً، لأنّ هذا ببساطةٍ هو السبيل الوحيد لضمان توافق أنظمتِه مع القيم الإنسانية وخدمتِها للمجتمع على نحوٍ إيجابيّ. إلّا أنّ النهج التقليديّ في تطوير أنظمته غالباً ما يفتقر إلى الشفافية والشمولية، ما قد يعني الخروجَ بنتائج متحيِّزةٍ وتقنيةً محاصَرةً دائماً بالمعضلات الأخلاقية، إذ يكون التطويرُ مهمة الفِرَق الداخلية، ولا يخلو من تأثير العوامل الذاتية، وإن استرشد بمبادئ معيارية كالميثاق العالمي لحقوق الإنسان.
في سياقاتٍ كالديمقراطية الأمريكيّة، لا يمكن المجازفة باحتمالٍ كهذا، وترك المؤسسات الجامدة تفشل في خدمة ناخبيها أو في التنسيق لحلّ الأزمات العالمية، خاصة أنّ التحديات الأكثر إلحاحاً جمعيّةٌ، بدءاً بتغير المناخ وليس انتهاءً بإدارة الموارد. وهذا ما طرح السؤال الجوهريّ: كيف يمكن ضمان أن تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي القيم والأولويات المتنوعة للمجتمعات التي تخدمها؟
للإجابة على هذا السؤال، تعاون القائمون على مشروع الذكاء الجمعيّ مع شركة أنثروبيك المعروفة بعملها في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، ليقدّما معاً مشروعاً باسم الذكاء الاصطناعيّ الدستوريّ التشاركيّ، يهدف إلى استكشاف طرائق جديدة لمواءمة الذكاء الاصطناعي مع القيم المجتمعية.
تمثِّل هذه المبادرة محاولةً رائدةً للاستفادة من المُدخلات التي يقدمها الجمهور بصورةٍ ديمقراطيّةٍ وإدراجها في تشكيل سلوك أنظمة الذكاء الاصطناعيّ. بعبارةٍ أخرى، هذا المشروع عبارةٌ عن حاضنةٍ لنماذج الحوكمة المبتكَرة المصممّة خصيصاً للتقنيات التحويلية، مع التركيز على البحث عن القدرات التشاركية وتطويرها.
باستخدام منصة بوليس التداوليّة مفتوحة المصدر، ساهم حوالي ألف أمريكيّ بأفكار متنوّعةٍ حول كيفية عمل أنظمة الذكاء الاصطناعيّ، وصوّتوا على المبادئ القائمة أو اقترحوا خياراتٍ جديدة. وكانت مساهماتُهم تلك مُدخلاتٍ قيّمةً في تدريب النماذج اللغوية الكبيرة، وأساساً لما أطلق عليه القائمون على المشروع اسم “الدستور العام”، الذي يعكس مزيجاً من القيم المجتمعية المشتركة مثل تعزيز إمكانية الوصول والموضوعية، ويختلف كثيراً عن النسخة التي وضعها المطورون.
وقد كشف المشروع عن العديد من التحديات التقنية والاجتماعية والإجرائية. على سبيل المثال، هناك تحدّي اختيار المشاركين، وهي عملية يجب أن تضمن تشكيل مجموعة شاملة ومتنوّعة وتمثيليّة فعلاً. ففي حين يجري اختيار عينة من البالغين الأمريكيين لضمان التنوع السكاني، يحدّ هذا من إمكانية تطبيق النتائج على مستوى العالم. أضف إلى ذلك أنّ معايير فرز المشاركين المصممة لضمان إلمامهم بالموضوع أدّت إلى تضييق النطاق عن غير قصد، مما قد يؤدي إلى استبعاد رؤى قيمة.
من ناحيةٍ أخرى، طرح فرز البيانات غير الصالحة أو غير ذات الصلة تحدياً كبيراً آخر، إذ كان لا بدّ من نظرةٍ إشرافيةٍ على المشاركات العامة لضمان أن يبقى الدستور مركّزاً، لكنّ قرارات الإشراف– مهما كانت مدروسة– تبقى عرضةً للتحيّزات المحتملة، فهي ذات طبيعة ذاتيةٍ تخضع للفرد نفسه.
وثمة تحدٍّ ثالث، وهو الترجمة إلى مبادئ متوافقةٍ مع الذكاء الاصطناعيّ، حيث كُتبَت المساهمات بلغةٍ طبيعية، وكان لا بدّ من إعادة صياغتها بلغةٍ معياريةٍ دقيقةٍ لتصلح لتدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعيّ. وهذه العملية هي الأخرى تخضع للأحكام الذاتية، ما يطرح تساؤلاتٍ حول مدى دقة الشكل النهائيّ للمساهمات.
أخيراً، تبقى العقبات التقنية في تدريب النموذج، وصعوبات تدريب النماذج اللغوية على الالتزام بالدستور العام. فقد أعطت الإصدارات الأولى من النموذج أولويةً لعدم الإضرار على حساب الفائدة، ما استلزم إجراء تجارب متكررة لتحقيق التوازن بين هذين العاملين بفعالية.
لكنّ هذه التحديات لا تمنع أنّ المشروع استطاع تحقيق العديد من النتائج المهمة، مثل تعزيز الثقة والشمولية من خلال إشراك الجمهور في تطوير الذكاء الاصطناعيّ، ما زادَ من رضا المستخدمين وإيمانهم بالتوافق الأخلاقيّ لهذه التقنية. كما أنّه كشف عن تعقيدات مساعي إدماج المُدخلات الديمقراطية في أنظمة الذكاء الاصطناعيّ، وبيّنَ العناصر الذاتية للعملية، ما سيعزّز الشفافية.
علاوةً على ذلك، أظهرت التقييمات أن النموذج المُدرّب على الدستور العام قد أظهرَ تحيّزاً أقلّ عبر الأبعاد الاجتماعية مقارنةً بالنماذج المُعدّة من قِبَل المطوّرين، وهذا يَعِد بالحدّ من التحيّز ويبشّر بقدرة الذكاء الجمعيّ على مقاربة المخاوف الأخلاقية المتعلّقة بهذه التقنية.
إنّ نجاح هذا المشروع يشير إلى إمكانية تطبيق عملياتٍ ديمقراطيةٍ مماثلةٍ على تقنياتٍ تحويليةٍ أخرى كالهندسة الحيوية، وهو ما يسلّط الضوء أيضاً على الحاجة إلى نماذج حوكمةٍ مبتكَرةٍ لمواجهة التحديات الجماعية التي يفرضها التقدّم التكنولوجيّ.
المراجع:









