في قلب طوكيو، افتتحُ مبتكِرون مطعماً يُسمح فيه للنادل بأن يقدّم للزبائن أطباقاً غير التي طلبوها، بل وتلاقي هفوتُه هذه الترحابَ وتُقابَل بالضحكات، لأنّ هذا النادل هو مسنٌّ يعمل في “مطعم الطلبات الخاطئة”، الذي يطلق مفهوماً ثورياً ويتحدّى الأعراف المجتمعية، ويعزّز فهم المجتمع للخَرَف وتقبُّلَه له من خلال تجربة طعامٍ قلّ نظيرُها.
ربما لم تكن مصادفةً أنّنا اخترنا “الشيخوخة” مجازاً لغوياً لعجز أيّ شيءٍ وضعفه، بكلّ تفاصيلها التي تذكّرنا بالتغيير الحتميّ لكلّ شيء. من بين هذه التفاصيل، تبرز حالة الخَرَف أكثر من غيرها، ذلك أنّها تتحدى تصوّراتنا عن الهوية والمدارك والقدرات.
لفترةٍ طويلة، تعاملت مجتمعاتنا بطريقةٍ تتجاهل- أو تهمِّش- أولئك الذين يعانون إعاقاتٍ إدراكية ناجمةً عن التقدّم في السنّ. في أحسن الأحوال، أي حين لا تُقابل أعراض الشيخوخة بالسخرية أو الوصم أو التنمّر، قد تحظى ببعض إيماءات التعاطف المقتنِعة بعدم جدوى التواصل مع المسنّ أو انتظار أن تنتعش ذاكرتُه.
لكنّ عالمنا اليوم يشهد ارتفاعاً لمتوسط عمر الإنسان وازدياداً في نسب المسنّين. فوفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية للعام 2023، أكثر من 55 مليون شخص في العالم مصابون بالخَرَف، وهذا العدد يزداد بواقع 10 ملايين حالة جديدة كل عام. كما تسلط منظمة الصحة العالمية الضوء على التأثير الاقتصادي الكبير للخَرَف، حيث بلغت الخسائر الاقتصادية العالمية حوالي 1.3 تريليون دولار في العام 2019.
في اليابان، تقدر وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية أن 5.23 مليون شخص سيصابون بالخَرَف بحلول العام 2030، وهذا يعني 10% من السكان، يُضاف إليهم نحو 5.93 مليوناً يعانون ضعف الإدراك المعتدل، وهو المرحلة التي تسبق الخَرَف.
إذاً، هناك حاجة ماسةٌ إلى ترسيخ القبول المجتمعي للأفراد المصابين بالخَرَف ودعمهم. ولم يعد في وسع الحكومة- والمجتمع المدنيّ بدرجةٍ أكبر- التعايش مع التصورات التقليديّة للخَرَف باعتباره فقداناً كاملاً للوظائف والاستقلالية، ما يرسّخ الصورة النمطية المؤذية ويحجب القدرات والمساهمات المحتملة لمن يعانونَه.
من قلب المجتمع المدنيّ، أطلق مخرجٌ موهوبٌ فكرة “مطعم الطلبات الخاطئة”، المستوحاة من تجربةٍ في إحدى دور رعاية المسنين، والهادفة إلى إنشاء مساحةٍ تُقابل فيها الأخطاء باللطف والتعاطف.
بعد جمع تمويلٍ قارب 115 ألف دولارٍ أمريكيّ، افتُتحت أبواب هذه المساحة في العام 2017، لتكون فعاليةً تتكرّر بصورةٍ شبه منتظمة، يلتقي فيها أشخاص محترفون من مجالاتٍ مختلفة، بما فيها إدارة المطاعم والتصميم الداخلي والرعاية الاجتماعية ومجموعة من المنظّمات النشطة في مجال المشكلات العقلية والإدراكية المرتبطة بالشيخوخة.
يوظّف هذا المطعم عاملين ونادلين يعانون الخَرَف، ويُتوقّع منهم ارتكاب الأخطاء عن قصد، كأن يخلطوا بين الطلبات أو يسيئوا فهمَها أو يشربوا كوب الماء المخصّص للزبون، قد يجلسون شاردي الذهن مع الزبائن، وقد يطلبون من أحدهم أن يذهب لأخذ الطلبات من الطاولات المجاورة. بهذا، يؤسس هؤلاء بيئةً تعطي الأسبقية للتواصل الإنساني وعنصر المفاجأة والتجارب الفريدة على حساب الشكل التقليديّ لكفاءة الخدمة.
تشجع هذه المبادرة رواد المطعم على تقبل ما هو غير متوقع وتقدير جهود مقدمي الخدمة. ومن خلال تقبل الأخطاء بتواضع ولطف، يكتسب الزبائن فهماً أعمق للتحديات التي يواجهها الأفراد المصابون بالخَرَف.
ولنشر الأثر على نطاقٍ أوسع، صُمّم موقع إلكتروني خاص بالمطعم، يوفر شرحاً تفصيلياً بالموارد وقائمةً بمعلومات الاتصال، وهو موجّه لأيّ مهتمٍ جريءٍ قد يرغب بمحاكاة هذه التجربة في أيّ مكانٍ من العالم. وقد حصل أن انطلقت مبادراتٌ مماثلةٌ في كوريا الجنوبية وأستراليا.
لكنّ الفكرة بقدر ما تبدو لطيفة، تطرح تحدّياتٍ وتساؤلاتٍ كثيرة، جلُّها مشروعة، فماذا عن المخاوف المجتمعية والأخلاقية؟ لقد تخوّف الكثيرون من احتمال تعرّض المسنّين المصابين بالخَرَف للاستغلال أو تحويلهم إلى مادةٍ للسخرية أو فرصةٍ للاستعراض. كما أنّ نسبةً لا يُستهان بها من المنتقدين عبّروا عن قلقهم من أن يصل المطعم في نهاية المطاف إلى حالةٍ يكرّس فيها الصورة النمطية السلبية أو ينشئ بيئةً سلبيةً أو قاسيةً قد يُهان فيها العاملون.
تراجعت معظم هذه المخاوف بتأثير المشاركة الإيجابية للعاملين وردود الفعل الداعمة والإنسانية من الزبائن، حيث أظهرت بمجملها القدرة التحويلية لهذا التوجّه.
من ناحيةٍ أخرى، واجهت المبادرة تحدّياتٍ تشغيلية، حيث استدعى التنظيم تخطيطاً مكثّفاً وتعاوناً بين قطاعاتٍ متعدّدة، إلى جانب عقبة ضمان الاستدامة المالية، فجمع التمويل الأوليّ قد أعطى المشروع شرارة الانطلاق، لكنّ استمراريته تبقى مرهونةً بنجاحه.
يبدو أنّ النتائج مبشرة، فقد ترك مطعم الطلبات الخاطئة تأثيراً عميقاً على زبائنه وعامليه. على سبيل المثال، في إحدى المرات، حصل 37% من الموجودين على وجباتٍ خاطئة. ومع ذلك، أعرب 99% منهم عن رضاهم عن التجربة.
الأهمّ هو أنّ المبادرة نجحت في تحدي الأفكار المسبقة، وإظهار قدرات الأفراد ذوي الإعاقات الإدراكية، وجوانب مختلفةٍ من شخصياتهم تستحقّ أن تُعرَف.
بمعنى آخر، فقد قرّر القائمون على هذا المكان إعطاء الأولوية للتفاعل الحقيقي وتعزيز العلاقات العميقة مع الآخرين، فأثبتوا أنّ القيمة الحقيقية تكمن في التجارب الإنسانية.
أخيراً، صبّت هذه المبادرة في مسار تحوّل مجتمعيٍّ أوسع نطاقاً نحو فهمٍ شاملٍ وإنسانيٍّ للأمراض المرتبطة بالشيخوخة، فالتحوّلات الكبرى في السلوك لا تغيّر حياة الأفراد فحسب، بل وتَقدر على تغيير نسيج مجتمعاتنا وتعزيز البيئات التي يزدهر فيها الجميع.
المراجع:








