يحتفي مشروع “مدينة الحياة المديدة” في نيوكاسل بكبار السن عبر إعادة تشكيل التصورات التقليدية حول الشيخوخة، من خلال بيئة حضرية ديناميكية وداعمة تمكّنهم من العيش بفاعلية واستقلالية. تعتمد هذه المبادرة على تكامل الابتكارات التكنولوجية، والتخطيط العمراني المستدام، والمشاركة المجتمعية، بهدف تعزيز جودة الحياة لكبار السن.
يُعَدّ التقدّم في العمر حقيقة حتمية لا مفرّ منها، وما يجعله يبدو محبطاً هو التصورات النمطية المرتبطة به، حيث يُختزل في صورة الشخص المسنّ الوحيد الذي يشاهد الحياة تمضي من حوله دون قدرة على مواكبتها أو الاندماج فيها.
في مختلف المدن الصاخبة حول العالم، يشهد متوسط العمر المتوقع ارتفاعًا مستمرًا، مما يؤدي إلى ازدياد نسبة كبار السن، وبالتالي تزايد الحاجة إلى المرافق والخدمات الصحية والرعائية المصممة لتلبية احتياجاتهم. ينطبق هذا الواقع على مدينة نيوكاسل في المملكة المتحدة، حيث تواجه تحديًا كبيرًا يستلزم نهجًا تكامليًا يشمل التخطيط الحضري، وتعزيز القطاع الصحي، وتعميق الاندماج الاجتماعي، بهدف تحسين جودة الحياة لسكانها المتقدمين في العمر.
من هنا، أبصر مشروعُ “مدينة الحياة المديدة” النور، وهو ثمرة جهدٍ تعاونيٍّ بين السلطات المحلية وجامعة نيوكاسل، مع شركاء من القطاع الخاص ومنظمة فويس المتخصصة في مبادرات الإدماج والإشراك.
يتقدّم المشروع عبر ثلاثة مساراتٍ رئيسية، أوّلها تصميم المساحات الحضرية التي تعزز النشاط البدني، ثم الارتقاء بخدمات الرعاية الصحية لإدارة الأمراض المرتبطة بالشيخوخة، إلى جانب تشجيع الاندماج الاجتماعي لمكافحة العزلة بين كبار السن.
بعبارةٍ أخرى، يهدف المشروع إلى بناء مدنٍ صحيةٍ تستخدم أدواتٍ ونُهُجاً مختلفةً للإدماج، وتوظِّف التكنولوجيا لتعزّز نوعية الحياة، وتجمعها بالعمران والرعاية الصحية وتعزيز الروابط بين الناس، بغية توفير بنية تحتية صديقة للمسنّين توفّر لهم ما يراعي احتياجاتهم من مرافق عامةٍ ووسائل نقلٍ وخيارات سكن، بالإضافة إلى الوقاية الصحية وإدارة الأمراض وخدمات الصحة النفسية.
بدأت المبادرة بالتركيز على التغييرات المصاحبة للتقدم في العمر، حيث هدفت الاستراتيجية إلى تمكين كبار السن من دور أكثر فاعلية، ليتحولوا من مجرد أفراد يشاركون بآرائهم في بعض الأحيان إلى مساهمين أساسيين في صياغة السياسات الصحية بصورة منهجية. ومن خلال شبكة “فويس”، تعاون السكان المحليون والخبراء لترسيخ ثقافة تعزز مفهوم طول العمر والرفاهية المستدامة.
أرست المبادرة إطارَ عملٍ قائماً على الأدلة مفتوحة المصدر، واختارت توظيف التقنيات الجديدة كأجهزة الاستشعار وتكنولوجيا جمع البيانات وتحليلها، بوصفها تفسح المجال لفهم السياقات الشخصية والاجتماعية والاستفادة منها بصورةٍ أخلاقيةٍ لدعم عملية صنع القرار.
وقد أدمجت الاستراتيجيات القائمة على البيانات المعطيات السلوكية والصحية في التخطيط الحضري والسياسة العامة، في حين يسرت الشراكات مع جامعة نيوكاسل والشركات الخاصة التدخلات الصحية المبتكرة.
من الناحية التكنولوجية، ركّز المشروع على تطوير ابتكارات تشمل الأجهزة التكيفية، والأنظمة المنزلية الذكية، وخدمات التأهيل عن بُعد، بهدف تسهيل حياة كبار السن وتمكينهم من العيش بنشاط واستقلالية اقتصادية. وقد تم تنفيذ هذه الحلول مع مراعاة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والصحية لضمان تكاملها وفعاليتها.
كما أنّ إدماج البيانات الصحية استهدفَ آليات الأمراض بشكلٍ مباشر، ومكّن السلطات الحضرية من تلبية احتياجات صحية محددة، فانصبّ تركيز الأنشطة على العيش بعافيةٍ ورفاهيةٍ وتوفير بيئةٍ صحية وتعزيز البرامج التثقيفية من أجل تحسين نوعية الحياة للسكان والسياح.
لم تكن المبادرة بمنأى عن التحديات، إذ اتضح منذ البداية أن إشراك المواطنين ليس بالمهمة السهلة، حيث يتطلب تجاوز القوالب الفكرية الراسخة تبني نهج إبداعي وخارج عن المألوف. ومن هذا المنطلق، أطلق المشروع حملات توعوية عبر منظومة “فويس” بهدف تعزيز مشاركة المجتمع في إحداث تغيير إيجابي في الواقع الصحي.
لكنّ التحدّي الأعقد كانَ إدماجَ العمل الأكاديميّ والمعلومات الصحية والتخطيط الحضري. وقد استلزمت مواجهتُه التعاون الحثيث ومتعدّد المستويات بين الجامعة والقطاع الخاص والأطراف الفاعلة في سياق التخطيط الحضري.
ولأنّ المبادرة تسعى لتحقيق فوائد طويلة الأمد، كان لا بدّ من مقاربة تحدّي الأثر المزيّف أو الوهميّ لضمان استدامة المشاركة العامة. لهذا، طوّر فريق المبادرة تقييماتٍ مدروسةً يمكن إجراؤها بانتظامٍ لتقييم المشروع، ونُهُجاً لحلّ المشكلات والحفاظ على زخم المشاركة.
أسهم المشروع في إحداث تأثير إيجابي على الأفراد الذين شملهم، وبدأ بترك بصمة واضحة على المجتمع ككل، حيث نجح في تعزيز الصحة وتشجيع أنماط الحياة النشطة ضمن البيئة الحضرية.
حمل المشروع أيضاً لمنفّذيه والمشاركين فيه دروساً مهمةً حول قيمة إدماج المواطنين في عمليات رسم الاستراتيجيات الصحية، وتعاون القطاعات العامة والخاصة والأكاديمية في الاستجابة لملاحظات المجتمع.
يمثّل البرنامج حليفاً لكبار السنّ والشباب على حدٍّ سواء، عبر تبنّيه نهجاً شاملاً لتنمية بيئات حضرية مزدهرة لجميع الأعمار.
المراجع:








