قامت وكالة رصد الفقر والتنمية البشرية الهندية بتغيير وسائل جمع البيانات، لتبني فهماً حقيقياً عن حياة الناس الذين يقفون خلفها، فتجمع القصص والدلائل البصرية وتحلل البيانات وتوحّد أصحاب المصلحة، لتؤسس نهجاً جديداً في التنمية البشرية.
وسط هذا الكم الهائل من البيانات التي شكّلت ملامح العالم المعاصر، قد نجد أنفسنا عالقين في متاهات الأرقام الجافة والمخططات والرسوم البيانية التي تجسّد واقعاً مشتركاً. غير أن خلف هذه الطبقات الصامتة من الإحصاءات، ينبض جوهر التجربة الإنسانية، متمثلاً في قصصٍ حية، تحمل في طياتها إنجازات وتحديات وطموحات.
حول العالم، تعمل آلاف المنظّمات والجمعيات في مجالات التنمية البشرية ومكافحة الفقر والأمية والعنف وغيرها. وغالباً ما تأتي هذه المؤسسات محمّلةً بافتراضاتٍ مسبقةٍ بَنَتها من الأرقام والإحصائيات والنِسَب، لأن الأساليب التقليدية لرصد واقع المجتمعات تعتمد على البيانات الكمّيّة. وفي حين يمكن للأخيرة أن تقدّم صورةً عن المشهد أو تروي جزءاً منه، تراها في معظم الحالات غافلةً عن الحيثيات والسياقات التي يعيشها الأفراد على أرض الواقع.
بالتالي، يمكن لهذا النهج القائم على البيانات أن يؤدي إلى رسم سياساتٍ منفصلةٍ أو بعيدةٍ عن الاحتياجات والتطلّعات الحقيقية للناس الذين تهدف إلى مساعدتهم. أما الأثر الحقيقيّ، فيقتضي اتباع أساليب مختلفة، ربما أكثر شموليةً أو أكثر قرباً لتجارب الناس.
في ولاية أوديشا الهندية، تعمل وكالة رصد الفقر والتنمية البشرية على بناء مقاربةٍ جديدةٍ لعملها، بعد 19 عاماً من العمل في مجال مكافحة الفقر وتنمية الإنسان والمجتمعات، واتّسمت بأنها كيان ذو رؤية مستقبلية يعمل مع شبكةٍ من المحترفين والمختصين ومنظمات المجتمع المدنيّ والمؤسسات الأكاديمية.
تجلّت هذه الجهود في مشروع الوكالة 2.0، وهو قفزةٌ مبتكرةٌ في نهج الرصد والتقييم، ليكون قائماً على السرد ومتمحوراً حول الناس وحول تمكينهم من مشاركة تجاربهم. فعلى مدار عامٍ كامل، شرعت فِرَقٌ من المشروع في زيارات ميدانية مكثفة امتدت على نطاق 26 مقاطعة في أوديشا، حيث التقت بأبناء المجتمعات المحلية مباشرةً للتعرف على حياتهم اليومية وواقعهم المُعاش، بخلاف الأساليب المعتادة القائمة على الجداول الإحصائية.
وبما أنّ الرقم وحده لن يكون ذا قيمةٍ بلا حكاية، والحكايةَ لن تحفِّز عملاً ما لم يوجَد لها رقمٌ يعبّر عنها، أنشأ فريق المبادرة ثلاثة مختبرات متخصّصةً لدعم العمل. تفرّغ المختبر الأول للسرد والواقع، أي لتوثيق قصص الناس وتسليط الضوء على تجاربهم وسرديات عن التحديات التي تواجههم. في حين حمل المختبر الثاني اسمَ مختبر الحكايات أو الأنثروبولوجيا البصرية، وهو يستخدم الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو لإبراز النمو البشري وأثر المبادرات الحكومية، ويعتمد على قدرة المعادِلات البصرية على إيصال المعلومة والثبات في ذاكرة المتلقّي. أما المختبر الثالث، فهو مختبر البيانات، الذي يعمل على تحليل المؤشرات العالمية والوطنية مع بناء آلية قوية ومحلية لجمع البيانات.
تتعاون هذه المختبرات لتبني فهماً شاملاً للفقر وواقع التنمية البشرية، وتتكامل مع نظامِ رصدٍ دقيقٍ وشفافٍ وغنيٍ بالمعلومات تتبنّاه وزارة الصحة العامة والتنمية البشرية. بهذا، تضمن المبادرة أن يُترجَم نتاجُها إلى رؤى قابلةٍ للتنفيذ والتحقّق والقياس، وأن تصل إلى منتجاتٍ معرفيةٍ تعكس التحوّل على المستوى الشعبيّ.
بالإضافة إلى ذلك، يستخدم فريق المشروع “نهج النظام الإيكولوجي” لصنع التغيير، فيسعى دائماً إلى تعزيز التعاون مع مختلف أصحاب المصلحة، بمن فيهم المثقفون والباحثون والمتطوعون، ليرسي نموذجَ رصدٍ وتقييمٍ لا مركزياً وتشاركياً وقادراً على إيصال أصوات المجتمعات المُهمَّشة وإدماجها في عملية صنع السياسات.
تعثّرت المبادرة الرائدة بسلسلةٍ من التحديات، مثل الصعوبات اللوجستية لتنظيم الزيارات الميدانية المكثّفة عبر 26 مقاطعة بعضُها يُعد مناطق نائية. وقد تطلّب الأمر وقتاً طويلاً وتنسيقاً كثيفاً من الفريق لتأمين سلاسة الحركة وفعّالية العمل الميدانيّ واستمرار المشاركة والتجاوب.
من ناحيةٍ أخرى، واجه المشروع تحدي مقاومة التغيير، وهذا شائعٌ في أيّ رحلةٍ لتغيير الممارسات المألوفة في كلّ مجال، وتكون مواجهتُه بالتدرُّج في إدخال النهج الجديد والحوار المستمرّ مع أصحاب المصلحة لإثبات جدواه.
أما التحدي الثالث والأبرز، فهو تكامل البيانات، إذ إنّ جمعُ السرديات الفردية والأرقام الدقيقة معاً لرسم صورةٍ واضحةٍ ومقنعةٍ ليس عمليةً بسيطة، وقد استدعى من القائمين على المبادرة توظيف قدراتٍ تحليليةٍ متقدّمةٍ تصنع من الحكايات والبيانات رؤى قابلةً للتنفيذ.
لعلّ أهمّ ما في الأمر هو أنّ هذه الجهود تحوّلت إلى آثارٍ مهمةٍ عديدة، أبرزُها تعزيز الرؤى السياسية وتزويد صانعي القرار بفهمٍ أغنى للمجتمعات، ما يعني تصميم تدخّلاتٍ فعّالةٍ وهادفةً أكثر.
كما ساهم المشروع في تمكين المجتمعات المحلية من خلال الاستماع إلى التجارب وتوثيقها، فعزّز الشعور بالملكية والمشاركة بين المواطنين.
بنى هذا العمل أنظمة رصدٍ مُعزَّزةً أيضاً، وأرسى إطار عملٍ قوياً لتتبّع التقدّم المُحرَز ورصد الفجوات. كما أنّه أنشأ وعياً أفضل برحلة التنمية التي تعيشها الولاية من خلال التوثيق المرئي والسرديّ، وهذا يجذب اهتمام أصحاب المصلحة المحليين والدوليين.
هكذا، رسّخت وكالة رصد الفقر والتنمية البشرية نفسها، مؤسّسةً فكريةً سياسيةً قادرةً على التأثير في عملية صنع القرار والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة.
المراجع:








